فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{الم (1) تَنْزيلُ الْكتَاب لَا رَيْبَ فيه منْ رَبّ الْعَالَمينَ (2)}.
لما ذكر الله تعالى في السورة المتقدمة دليل الوحدانية وذكر الأصل وهو الحشر وختم السورة بهما بدأ ببيان الرسالة في هذه السورة فقال: {الم تَنزيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فيه} وقد علم ما في قوله: {الم} وفي قوله: {لاَ رَيْبَ فيه} من سورة البقرة وغيرها غير أن هاهنا قال: {من رَّبّ العالمين} وقال من قبل {هُدًى وَرَحْمَةً لّلْمُحْسنينَ} [لقمان: 3] وقال في البقرة (2): {هُدًى لّلْمُتَّقينَ} وذلك لأن من يرى كتابًا عند غيره، فأول ما تصير النفس طالبة تطلب ما في الكتاب فيقول ما هذا الكتاب؟ فإذا قيل هذا فقه أو تفسير فيقول بعد ذلك تصنيف من هو؟ ولا يقال أولا: هذا الكتاب تصنيف من؟ ثم يقول فيماذا هو؟ إذا علم هذا فقال أولا هذا الكتاب هدى ورحمة، ثم قال هاهنا هو كتاب الله تعالى وذكره بلفظ رب العالمين لأن كتاب من يكون رب العالمين يكون فيه عجائب العالمين فتدعو النفس إلى مطاعته.
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ منْ رَبّكَ لتُنْذرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ منْ نَذيرٍ منْ قَبْلكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)} يعني أتعترفون به أم تقولون هو مفترى، ثم أجاب وبين أن الحق أنه حق من ربه ثم بين فائدة التنزيل وهو الإنذار، وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
كيف قال: {لتُنذرَ قَوْمًا مَّا أتاهم مّن نَّذيرٍ} مع أن النذر سبقوه الجواب: من وجهين أحدهما: معقول والآخر منقول، أما المنقول فهو أن قريشًا كانت أمة أمية لم يأتيهم نذير قبل محمد صلى الله عليه وسلم وهو بعيد، فإنهم كانوا من أولاد إبراهيم وجميع أنبياء بني إسرائيل من أولاد أعمامهم وكيف كان الله يترك قومًا من وقت آدم إلى زمان محمد بلا دين ولا شرع؟ وإن كنت تقول بأنهم ما جاءهم رسول بخصوصهم يعني ذلك القرن فلم يكن ذلك مختصًا بالعرب بل أهل الكتاب أيضًا لم يكن ذلك القرن قد أتاهم رسول وإنما أتى الرسل آباءهم، وكذلك العرب أتى الرسل آباءهم كيف والذي عليه الأكثرون أن آباء محمد عليه الصلاة والسلام كانوا كفارًا ولأن النبي أوعدهم وأوعد آباءهم بالعذاب، وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وأما المعقول وهو أن الله تعالى أجرى عادته على أن أهل عصر إذا ضلوا بالكلية ولم يبق فيهم من يهديهم يلطف بعباده ويرسل رسولًا، ثم إنه إذا أراد طهرهم بإزالة الشرك والكفر من قلوبهم وإن أراد طهر وجه الأرض باهلاكهم، ثم أهل العصر ضلوا بعد الرسل حتى لم يبق على وجه الأرض عالم هاد ينتفع بهدايته قوم وبقوا على ذلك سنين متطاولة فلم يأتهم رسول قبل محمد عليه الصلاة والسلام فقال: {لتُنذرَ قَوْمًا مَّا أتاهم} أي بعد الضلال الذي كان بعد الهداية لم يأتهم نذير.
المسألة الثانية:
لو قال قائل التخصيص بالذكر يدل على نفي ما عداه فقوله: {لتُنذرَ قَوْمًا مَّا أتاهم} يوجب أن يكون إنذاره مختصًا بمن لم يأته نذير لكن أهل الكتاب قد أتاهم نذير فلا يكون الكتاب منزلًا إلى الرسول لينذر أهل الكتاب فلا يكون رسولًا إليهم نقول هذا فاسد من وجوه أحدها: أن التخصيص لا يوجب نفي ما عداه والثاني: أنه وإن قال به قائل لكنه وافق غيره في أن التخصيص إن كان له سبب غير نفي ما عداه لا يوجب نفي ما عداه، وههنا وجد ذلك لأن إنذارهم كان أولى، ألا ترى أنه تعالى قال: {وَأَنذرْ عَشيرَتَكَ الأقربين} [الشعراء: 214] ولم يفهم منه أنه لا ينذر غيرهم أو لم يأمر بإنذار غيرهم وإنذار المشركين كان أولى، لأن إنذارهم كان بالتوحيد والحشر وأهل الكتاب لم ينذروا إلا بسبب إنكارهم الرسالة فكانوا أولى بالذكر فوقع التخصيص لأجل ذلك الثالث: هو أن على ما ذكرنا لا يرد ما ذكره أصلا، لأن أهل الكتاب كانوا قد ضلوا ولم يأتهم نذير من قبل محمد بعد ضلالهم فلزم أن يكون مرسلا إلى الكل على درجة سواء، وبهذا يتبين حسن ما اخترناه، وقوله: {لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} يعني تنذرهم راجيًا أنت اهتداءهم. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {الم تَنزيلُ الْكتَاب} يعني القرآن.
{لاَ رَيْبَ فيه} أي لا شك فيه أنه تنزيل.
{من رَّبّ الْعَالَمينَ} والريب هو الشك الذي يميل إلى السوء والخوف، قال أبو ذؤيب:
أسرين ثم سمعن حسًا دونه ** سرف الحجاب وريب قرع يقرع

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} يعني كفار قريش يقولون إن محمدًا افترى هذا القرآن ويكذبه.
{بَلْ هَوَ الْحَقُّ من رَّبّكَ} يعني القرآن حق نزل عليك من ربك.
{لتُنْذرَ قَوْمًا مَّآ أَتَاهُم مّن نَّذيرٍ مّن قَبْلكَ} يعني قريشًا، قاله قتادة: كانوا أمة أمية لم يأتهم نذير من قبل محمد صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.قال ابن عطية:

{الم (1) تَنْزيلُ الْكتَاب لَا رَيْبَ فيه منْ رَبّ الْعَالَمينَ (2)}.
{تنزيل} يصح أن يرتفع بالابتداء والخبر {لا ريب} ويصح أن يرتفع على أنه خبر ابتداء، وهو إما الحروف المشار إليها على بعض الأقوال في أوائل السور، وإما ذلك تنزيل أو نحو هذا من التقدير بحسب القول في الحروف وقوله تعالى: {لا ريب فيه} أي هو كذا في نفسه ولا يراعى ارتياب الكفرة، وقوله: {من رب العالمين} متعلق ب {تنزيل}، ففي الكلام تقديم وتأخير، ويجوز أن يتعلق بقوله: {لا ريب} أي لا شك فيه من جهة الله تعالى وإن وقع شك للفكرة فذلك لا يراعى، والريب الشك وكذلك هو في كل القرآن إلا قوله: {ريب المنون} [الطور: 30] وقوله: {أم يقولون} إضراب، كأنه قال بل أيقولون، و{افتراه} اختلقه، ثم رد تعالى على مقالتهم هذه وأخبر أنه {الحق} من عند الله، واللام في قوله: {لتنذر} يجوز أن تتعلق بما قبلها، ولا يجوز الوقف على قوله: {من ربك} ويجوز أن تتعلق بفعل مضمر تقديره أنزله لتنذر فيوقف حينئذ على قوله: {من ربك}، وقوله: {ما أتاهم من نذير} أي لم يباشرهم ولا رأوه هم ولا آباؤهم العرب، وقوله تعالى: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} [فاطر: 24] يعم من بوشر من النذر ومن سمع به فالعرب من الأمم التي خلت فيها النذر على هذا الوجه لأنها علمت بإبراهيم وبنيه ودعوتهم وهم ممن لم يأتهم نذير مباشر لهم سوى محمد صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس ومقاتل: المعنى لم يأتهم نذير في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {الم تَنزيلُ الكتاب}.
الإجماع على رفع {تَنْزيلُ الْكتَاب} ولو كان منصوبًا على المصدر لجاز؛ كما قرأ الكوفيون: {إنَّكَ لَمنَ المرسلين على صرَاطٍ مُّسْتَقيمٍ تَنزيلَ العزيز الرحيم} [يس: 53].
و{تَنْزيلُ} رفع بالابتداء والخبر {لاَ رَيْبَ فيه}.
أو خبر على إضمار مبتدأ؛ أي هذا تنزيل، أو المتلوّ تنزيل، أو هذه الحروف تنزيل.
ودلّت: {الم} على ذكر الحروف.
ويجوز أن يكون {لاَ رَيْبَ فيه} في موضع الحال من {الْكتَاب}.
و{من رَّبّ العالمين} الخبر.
قال مكيّ: وهو أحسنها.
ومعنى: {لاَ رَيْبَ فيه منْ رَبّ الْعَالَمينَ} لا شك فيه أنه من عند الله؛ فليس بسحر ولا شعر ولا كهانة ولا أساطير الأوّلين.
قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} هذه أَمْ المنقطعة التي تقدّر ببل وألف الاستفهام؛ أي بل أيقولون.
وهي تدلّ على خروج من حديث إلى حديث؛ فإنه عز وجلّ أثبت أنه تنزيل من رب العالمين، وأن ذلك مما لا ريب فيه، ثم أضرب عن ذلك إلى قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} أي افتعله واختلقه.
{بَلْ هُوَ الحق من رَّبّكَ} كذّبهم في دعوى الافتراء.
{لتُنذرَ قَوْمًا} قال قتادة: يعني قريشًا، كانوا أمّة أميّة لم يأتهم نذير من قبل محمد صلى الله عليه وسلم.
و{لتُنْذرَ} متعلق بما قبلها فلا يوقف على {منْ رَبّكَ}.
ويجوز أن يتعلق بمحذوف؛ التقدير: أنزله لتنذر قومًا، فيجوز الوقف على {منْ رَبّكَ}.
وما في قوله: {مَّآ أَتَاهُم} نفي.
{مّن نَّذيرٍ} صلة.
و{نَذيرٍ} في محل الرفع، وهو المُعْلم المُخَوّف.
وقيل: المراد بالقوم أهل الفَترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام؛ قاله ابن عباس ومقاتل.
وقيل: كانت الحجة ثابتة لله جل وعز عليهم بإنذار من تقدّم من الرسل وإن لم يروْا رسولًا؛ وقد تقدّم هذا المعنى. اهـ.

.قال أبو السعود:

سورة السجدة مكية وهى ثلاثون آية وقيل تسع وعشرون.
بسْم الله الرَّحْمَن الرَّحيم.
{الم} إمَّا اسمٌ للسورة فمحلّه الرَّفعُ على أنَّه خبر لمبتدأ محذوفٍ أي هذا مسمَّى بألم والإشارةُ إليها قبل جريان ذكرها قد عرفتَ سرَّها، وإمَّا مسرودٌ على نمط التَّعديد فلا محلَّ له من الإعراب، وقوله تعالى: {تَنزيلُ الكتاب} على الأول خبرٌ بعدَ خبرٍ على أنَّه مصدرٌ أُطلق على المفعول مبالغةً وعلى الثَّاني خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي المؤلَّفُ من جنس ما ذُكر تنزيلُ الكتاب وقيل خبرٌ لألم أي المسمَّى تنزيلُ الكتاب وقد مرَّ مرارًا أن ما يُجعل عنوانًا للموضوع حقُّه أنْ يكونَ قبل ذلك معلومَ الانتساب إليه وإذ لا عهدَ بالتَّسمية قبلُ فحقُّها الإخبارُ بها، وقوله تعالى: {لاَ رَيْبَ فيه} خبرٌ ثالثٌ على الوجه الأول وثانٍ على الأخيرين وقيل: خبرٌ لتنزيلُ الكتاب فقولُه تعالى: {من رَّبّ العالمين} متعلقٌ بمضمرٍ هو حالٌ من الضَّمير المجرور أي كائنًا منه تعالى، لا بتنزيلُ لأنَّ المصدرَ لا يعملُ فيما بعد الخبر والأوجهُ حينئذٍ أنَّه الخبرُ، ولا ريبَ فيه حالٌ من الكتاب أو اعتراضٌ والضَّميرُ في فيه راجعٌ إلى مضمون الجملة كأنَّه قيل لا ريبَ في ذلك أي في كونه منزَّلًا من ربّ العالمين. ويُؤيده قولُه تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} فإنَّ قولَهم هذا إنكارٌ منهم لكونه من ربَّ العالمين فلابد أنْ يكونَ موردُه حكمًا مقصودَ الإفادة لا قيدًا للحكم بنفي الرَّيب عنه وقد رُدَّ عليهم ذلك وأُبطل حيث جيء بأم المنقطعة إنكارًا له وتعجيبًا منه لغاية ظهورٍ بُطلانه واستحالة كونه مفترى ثم أُضرب عنه إلي بيان حقّية ما أنكروه حيثُ قيل: {بَلْ هُوَ الحق من رَّبّكَ} بإضافة اسم الربّ إلى ضميره عليه الصَّلاة والسَّلام بعد إضافته فيما سبق إلى العالمين تشريفًا له عليه الصَّلاة والسَّلام ثم أيَّد ذلك ببيان غايته حيثُ قيل: {لتُنذرَ قَوْمًا مَّا أتاهم مّن نَّذيرٍ مّن قَبْلكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} فإنَّ بيان غاية الشيء وحكمته لاسيما عند كونها غاية حميدةً مستتبعة لمنافعَ جليلةٍ في وقت شدَّة الحاجة إليها ممَّا يُقرر وجودَ الشيء ويؤكّده لا محالة ولقد كانت قريشٌ أضلَّ النَّاس وأحوجَهم إلى الهداية بإرسال الرَّسول وتنزيل الكتاب حيثُ لم يبعث إليهم من رسولٍ قبله عليه الصَّلاة والسَّلام أي ما أتاهم من نذير من قبل إنذارك أو من قبل زمانك، والتَّرجّي معتبرٌ من جهته عليه الصَّلاة والسَّلام أي لتندرَهم راجيًا لاهتدائهم أو لرجاء اهتدائهم، واعلم أنَّ ما ذُكر من التَّأييد، إنَّما يتسنَّى على ما ذُكر من كون تنزيلُ الكتاب مبتدًا وأما على سائر الوجوه فلا تأييدَ أصلًا لأنَّ قولَه تعالى من ربّ العالمين خبرٌ رابعٌ على الوجه الأول وخبرٌ ثالثٌ على الوجهين الأخيرين وأيًّا ما كان فكونُه من ربّ العالمين حكمٌ مقصودُ الإفادة لا قيدٌ لحكمٍ آخرَ. فتدبَّر. اهـ.

.قال الألوسي:

{الم} إن جعل اسمًا للسورة أو القرآن فمحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذا الم، وقوله تعالى: {تَنزيلُ الكتاب} خبر بعد خبر على أنه مصدر باق على معناه لقصد المبالغة أو بتقدير مضاف أو هو مؤول باسم المفعول أي منزل وإضافته إلى الكتاب من إضافة الصفة إلى الموصوف أو بيانية بمعنى من، وقوله سبحانه: {لاَ رَيْبَ فيه} خبر ثالث، وقوله تعالى: {من رَّبّ العالمين} خبر رابع، وجوز أن يكون {الم} مبتدأ وما بعده أخبار له أي المسمى بالم الكتاب المنزل لا ريب فيه كائن من رب العالمين، وتعقب بأن ما يجعل عنوانًا للموضوع حقه أن يكون قبل ذلك معلوم الانتساب إليه وإذ لا عهد بالنسبة قبل فحقها الإخبار بها.
وقال أبو البقاء: {الم} يجوز أن يكون مبتدأ و{تَنزيلَ} بمعنى منزل خبره و{لاَ رَيْبَ فيه} حال من {الكتاب} والعامل فيها المضاف وهي حال مؤكدة و{مَن رَّبُّ} متعلق بتنزيل، ويجوز أن يكون متعلقًا بمحذوف هو حال من الضمير المجرور في {فيه} والعامل فيها الظرف {لاَ رَيْبَ} لأنه هنا مبني وفيه ما سمعت، وهذا التعلق يجوز أيضًا على تقدير أن يكون {الم} خبر مبتدأ محذوف وما بعده أخبارًا لذلك المحذوف، وإن جعل {الم} مسرودًا على نمط التعديد فلا محل له من الإعراب، وفي إعراب ما بعد عدة أوجه، قال أبو البقاء: يجوز أن يكون {تَنزيلَ} مبتدأ و{لاَ رَيْبَ فيه} الخبر و{مَن رَّبُّ} حال كما تقدم، ولا يجوز على هذا أن يتعلق بتنزيل لأن المصدر قد أخبر عنه، ويجوز أن يكون الخبر {مَن رَّبُّ} و{لاَ رَيْبَ} حالًا من {الكتاب} وأن يكون خبرًا بعد خبر انتهى.
ووجه منع التعلق بالمصدر بعدما أخبر عنه أنه عامل ضعيف فلا يتعدى عمله لما بعد الخبر وعن التزام حديث التوسع في الظرف سعة هنا أو أن المتعلق من تمامه والاسم لا يخبر عنه قبل تمامه، وجوز ابن عطية تعلق {مَن رَّبُّ} بريب وفيه أنه بعيد عن المعنى المقصود، وجوز الحوفي كون {تَنزيلَ} خبر مبتدأ محذوف أي المؤلف من جنس ما ذكر تنزيل الكتاب، وقال أبو حيان: الذي اختاره أن يكون {تَنزيلَ} مبتدأ {وَلاَ رَيْبَ فيه} اعتراض لا محل له من الإعراب و{من رَّبّ العالمين} الخبر وضمير {فيه} راجع لمضمون الجملة أعني كونه منزلًا من رب العالمين لا للتنزيل ولا للكتاب كأنه قيل: لا ريب في ذلك أي في كونه منزلًا من رب العالمين وهذا ما اعتمد عليه الزمخشري وذكر أنه الوجه ويشهد لوجاهته قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} فإن قولهم هذا مفترى إنكار لأن يكون من رب العالمين أي فالأنسب أن يكون نفي الريب عما أنكروه وهو كونه من رب العالمين جل شأنه، وقيل: أي فلابد من أن يكون مورده حكمًا مقصودًا بالإفادة لا قيدًا للحكم بنفي الريب عنه، وفيه بحث، وكذا قوله سبحانه: {بَلْ هُوَ الحق من رَّبّكَ} فإنه تقرير لما قبله فيكون مثله في الشهادة ثم قال في نظم الكلام على ذلك: إنه أسلوب صحيح محكم أثبت سبحانه أولًا أن تنزيله من رب العالمين وأن ذلك مما لا ريب فيه أي لا مدخل للريب في أنه تنزيل الله تعالى وهو أبعد شيء منه لأن نافي الريب ومميطه معه لا ينفك أصلًا عنه وهو كونه معجزًا للبشر، ثم أضرب جل وعلا عن ذلك إلى قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} لأن {أَمْ} هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل والهمزة إنكارًا لقولهم وتعجيبًا منه لظهور عجز بلغائهم عن مثل أقصر سورة منه فهو إما قول متعنت مكابر أو جاهل عميت منه النواظر، ثم أضرب سبحانه عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق من ربك، وفي الكشف أن الزمخشري بين وجاهة كون {تَنزيلُ الكتاب} مبتدأ و{لاَ رَيْبَ فيه} اعتراضًا و{من رَّبّ العالمين} خبرًا بحسن موقع الاعتراض إذ ذاك ثم حسن الإنكار على الزاعم أنه مفترى مع وجود نافي الريب ومميطه ثم إثبات ما هو المقصود وعدم الالتفات إلى شغب هؤلاء المكابرة بعد التلخيص البليغ بقوله تعالى: {بَلْ هُوَ الحق من رَّبّكَ} وما في إيثار لفظ {الحق} وتعريفه تعريف الجنس من الحسن؛ ويقرب عندي من هذا الوجه جعل {تَنزيلَ} مبتدأ وجملة {لاَ رَيْبَ فيه} في موضع الحال من {الكتاب} و{مَن رَّبُّ} خبرًا فتدبر ولا تغفل، وزعم أبو عبيدة أن {أَمْ} بمعنى بل الانتقالية وقال: إن هذا خروج من حديث إلى حديث وليس بشيء.
والظاهر أن {من رَبّكَ} في موضع الحال أي كائنًا من ربك، وقيل: يجوز جعله خبرًا ثانيًا وإضافة الرب إلى العالمين أولًا ثم إلى ضمير سيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم ثانيًا بعدما فيه من حسن التخلص إلى إثبات النبوة وتعظيم شأنه علا شأنه فيه أنه عليه الصلاة والسلام العبد الجامع الذي جمع فيه ما فرق في العالم بالأسر، ووروده على أسلوب الترقي دل على أن جمعيته صلى الله عليه وسلم أتم مما لكل العالم وحق له ذلك صلوات الله تعالى وسلامه عليه {لتُنذرَ قَوْمًا مَّا أتاهم مّن نَّذيرٍ مّن قَبْلكَ} بيان للمقصود من تنزيله فقيل لهو متعلق بتنزيل، وقيل: بمحذوف أي أنزله لتنذر الخ، وقيل: بما تعلق به {من رَبّكَ} {وقوما} مفعول أول لتنذر والمفعول الثاني محذوف أي العقاب و{فى مَا} نافية كما هو الظاهر و{منْ} الأولى صلة {وَنَذيرٌ} فاعل {ءاتاهم} ويطلق على الرسول وهو المشهور وعلى ما يعمه والعالم الذي ينذر عنه عز وجل قيل: وهو المراد هنا كما في قوله تعالى: {وَإن مّنْ أُمَّةٍ إلاَّ خَلاَ فيهَا نَذيرٌ} [فاطر: 24].
وجوز أن يكون النذير هاهنا مصدرًا بمعنى الإنذار و{من قَبْلكَ} أي من قبل إنذارك أو من قبل زمانك متعلق بأتى والجملة في موضع الصفة لقوما، والمراد بهم قريش على ما ذهب إليه غير واحد، قال في الكشف: الظاهر أنه لم يبعث إليهم رسول منهم قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا ملزمين بشرائع الرسل من قبل وإن كانوا مقصرين في البحث عنها لاسيما دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إن قلنا: إن دعوتي موسى وعيسى عليهما السلام لم تعما وهو الأظهر، وقد تقدم لك القول بانقطاع حكم نبوة كل نبي ما عدا نبينا صلى الله عليه وسلم بعد موته فلا يكلف أحد مطلقًا يجىء بعده باتباعه والقول بالانقطاع إلا بالنسبة لمن كان من ذريته، والظاهر أن قريشًا كانوا ملزمين بملة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وإنهم لم يزالوا على ذلك إلى أن فشت في العرب عبادة الأصنام التي أحدثها فيهم عمرو الخزاعي لعنه الله تعالى فلم يبق منهم على الملة الحنيفية إلا قليل بل أقل من القليل فهم داخلون في عموم قوله تعالى: {وَإن مّنْ أُمَّةٍ إلاَّ خَلاَ فيهَا نَذيرٌ} [فاطر: 24] فإنه عام للرسول وللعالم الذي ينذر كذا قيل.